مقال بعنوان الوطنية بين الحقيقة والادعاء في ضوء الأشهر الحرم للدكتور خالد بدير
مقال بعنوان الوطنية بين الحقيقة والادعاء في ضوء الأشهر الحرم للدكتور خالد بدير
تحميل مقال بعنوان الوطنية بين الحقيقة والادعاء في ضوء الأشهر الحرم بصيغة word
تحميل مقال بعنوان الوطنية بين الحقيقة والادعاء في ضوء الأشهر الحرم بصيغة pdf
_____________________________________
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف
إن شهر رجب -كما نعلم جميعًا- أحد الأشهر الحرم الأربعة : ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب. وقد ذكرها الله تعالى إجمالًا في قوله: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (التوبة : 36).
ومعنى كلمة حرم أي أن هذه الأشهر الحرم لها حرمة ومكانة وقداسة وعظمة عند الله، فيحرم فيها القتال والسرقة وانتهاك الحرمات كلها، وهذه هي الوطنية الحقيقية، لذلك تضاعف الحسنات كما تضاعف السيئات لحرمة هذه الأشهر، فيجب علي المسلم تعظيم الحرمات في هذه الأشهر الحرم، وخص الله تعالى الأربعة الأشهر الحرم بالذكر، ونهى عن الظلم فيها تشريفًا لها وإن كان منهياً عنه في كل الزمان.
قال قتادة: إن الله اصطفى صَفَايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس رسلاً واصطفى من الكلام ذِكْرَه، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فَعَظِّموا ما عظم الله، فإنما تُعَظم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل.
لذلك كان ظلم النفس والغير في هذه الأيام من أعظم الذنوب والآثام؛ وذلك لما لها من حرمة كبيرة عند الله تعالى، ولأن القتال في هذه الأشهر قد يعرض مئات الآلاف من الحجاج والمعتمرين وأهليهم الذين في ديارهم للهلاك والقتل بلا ذنب أو جريرة أو مشاركة في الحرب، لذلك أمّن الله تعالى هؤلاء الناس – بل والأرض جميعًا- على أنفسهم وأموالهم في هذه الأيام؛ لكي لا تمتد إليهم يد بقتل أو انتهاك للحقوق، أو خرق للوطنية.
قال ابن كثيرٍ -رحمه الله-: “كان الرجلُ يلقَى قاتلَ أبيه في الأشهُر الحرم فلا يمُدُّ إليه يدَه”.
ولكن : لماذا كانت الأشهر المحرمة ثلاثة متوالية ( ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ) ؛ وواحد فرد وهو ( رجب )؟!!
قال العلماء: وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة، ثلاثة سَرْدٌ وواحد فرد؛ لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، فحُرِّم قبل شهر الحج شهر، وهو ذو القعدة؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال، فيذهبون إلى الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج وهم آمنون، وحُرِّم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك وهم آمنون، وحرم بعده شهر آخر، وهو المحرم؛ ليرجعوا فيه إلى نائي أقصى بلادهم آمنين، وحرم رجب في وسط الحول، لأجل زيارة البيت والاعتمار به، لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب، فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمناً.
ولقد شَنَّع القرآن الكريم بهؤلاء الهدَّامين الذين يدعُّون الوطنية والالتزام بالعهود والمواثيق وهم من كل ذلك براء أيما تشنيع .
فنحن نعلم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كتب معاهدات مع غير المسلمين أنه لا قتال في الأشهر الحرم ، والالتزام بالوطنية الحقيقية، والدفاع عن الأوطان من أي عدوان غاشم، وقد كان العرب قبل الإسلام يعظّمون الأشهر الحرم فيما يظهر للناس، ولكنهم يتلاعبون بها وفق أهوائهم، فإذا أرادوا قتالًا أو إغارة على قبيلة من القبائل أحلوا أحدها عامًا وحرموه عامًا، وسبب ذلك أن العرب كانت أصحاب حروب وغارات فكان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغيرون فيها، وقالوا: لئن توالت علينا ثلاثة أشهر لا نصيب فيها شيئًا لنهلكن، وزعمت أن التحليل والتحريم إليها، فابتدعته من ذاتها مقتفية لشهواتها فأحلت ما حرم والله، وهم يرون بذلك عملهم حسنًا، ولكنه تزيين الشيطان لهم في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم سبحانه وتعالى، وتزييف للوطنية الحقة.
وقد صور الله فعلتهم الشنيعة هذه وتلاعبهم بالشهور في قوله تعالى: { إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}(التوبة: 37)، روي في ذلك: أنَّ جُنادة بن عوف بن أمية الكناني، كان يوافي الموسم في كل عام، وكان يكنى “أبا ثُمَامة”، فينادي: ألا إن أبا ثمامة لا يُحاب ولا يُعاب، ، ولا مَرَدّ لما أقول، ألا وإن صفر العام الأول حلال، فيحله للناس، فيحرم صفراً عاماً، ويحرم المحرم عاماً، فذلك قول الله: { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } إلى قوله: { الكافرين } يقول: يتركون المحرم عاماً، وعاماً يحرمونه، وقال بعض العلماء: أنهم يزيدون شهراً فتصير السنة عندهم ثلاثة عشر شهراً، وقيل يزيدون شهرين، وقيل يزيدون نصف شهر، وقيل غير ذلك، وأياً ما كان الأمر فإن الغاية والهدف واحد وهو التلاعب بالشهور فيكون الشهر الحرام عندنا ، حلال عندهم حتى يغيروا على المسلمين ويقاتلونهم فيها بحجة أن هذه الأشهر حلال عندهم، وهذا النسئ المذكور في الآية معناه تأخير الشهور عن بعضها، {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ }.
إن ديننا الإسلامي هو دين السلام والأمان، دين يحرّم القتال في ثلث العام، ليأمن الناس على حياتهم وعلى أموالهم وأعراضهم، ولا يجعل للقتال مبررًا في هذه الأيام إلا رد العدوان، أما ما دون ذلك فلا يجوز للمسلمين بدء القتال.
لقد عظم الإسلام الدم، وجعل سافكه مرتكبًا لإثم كبيرٍ، وفي هذه الأشهر تتضاعف تلك الجريمة، إنها رسالة للعالم وللإنسانية أن هذا الدين دين سلم وسلام، وأمن وأمان، فهلاَّ فقهت البشرية وانتبه عقلاء العالم إلى هذا الدين العظيم!!
إن ارتكاب المعاصي والذنوب وانتهاك الحرمات في هذه الأشهر ظلم بيِّن للنفس، لذلك قال تعالى: { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } أي: في هذه الأشهر المحرمة؛ لأنه آكد وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف، لقوله تعالى: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25) وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام؛ ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي، وطائفة كثيرة من العلماء، وكذا في حَقِّ من قتل في الحرم أو قتل ذا محرم، وقال قتادة في قوله: { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرًا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم.
يقول الإمام القرطبي – رحمه الله – ” لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب، لأن الله سبحانه إذا عظم شيئاً من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة، وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيئ كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح، فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام، ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال” ، وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله تعالى: { يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } (الأحزاب: 30).
وذلك لأن الفاحشة إذا وقعت من إحدى نساء النبي – صلى الله عليه وسلم – يضاعف لها العذاب ضعفين بخلاف ما إذا وقعت من غيرهن من النساء.
وفي الختام: ما هو واجب المسلم تجاه الوطنية الحقيقية في ضوء شهر رجب والأشهر الحرم؟!
أقول: ينبغي على المسلم عدة أمور نجملها فيما يلي:
أولاً: أن يعظم هذه الأشهر المباركة المحرمة بما فيها من شعائر، قال تعالى: { َذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج: 32).
ثانياً: تعظيم الحرمات لأن أمرها جاء من الله: قال تعالى: { ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ } (الحج: 30)،
ثالثا: التحذير من انتهاك الحرمات في هذه الأشهر الحرم، من قتل أو تخريب أو تدمير أو غيره من سبل التجريم، لأن في ذلك زوالا لكل حسناتك ولو كانت كالجبال، فَعَنْ ثَوْبَانَ، عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – أَنَّهُ قَالَ :” لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا ، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا ، قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، صِفْهُمْ لَنَا ، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ ، وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ ، قَالَ : أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا.”( ابن ماجة بسند صحيح).
رابعا: الابتعاد عن الظلم في هذه الأشهر، لقوله تعالى: { فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ }.
والظلم ثلاثة أقسام :
- ظلم بين الإنسان وبين الله تعالى وأعظمه الشرك بالله .
- ظلم بينه وبين الناس.
- ظلم بينه و بين نفسه .
وكل هذه الثلاثة في الحقيقة ظلم للنفس ، فإن الإنسان أول ما يَهُمّ بالظلم فقد ظلم نفسه، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ الله عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “الظُّلْمُ ثَلاثَةٌ، فَظُلْمٌ لا يَغْفِرُهُ الله، وَظُلْمٌ يَغْفِرُهُ، وَظُلْمٌ لا يَتْرُكُهُ، فَأَما الظُّلْمُ الَّذِي لا يَغْفِرُهُ الله فَالشِّرْكُ، قَالَ الله: {إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يَغْفِرُهُ فَظُلْمُ العِباَدِ أَنْفُسَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لا يَتْرُكُهُ الله فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا حَتَّى يُدَبِّرُ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ”.( البزار والطيالسي بسند صحيح).
بهذه المبادئ والأسس تتحقق الوطنية المنشودة في ضوء هذه الأشهر الحرم المباركة، ويسعد الإنسان بالأمن والأمان في دنياه، ويفوز بجنة الخلد والثواب العظيم في أخراه .
نسأل الله أن يبارك لنا في رجب وشعبان وأن يبلغنا رمضان
وأن يحفظ مصرنا وبلادنا من كل مكروه وسوء .
كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي
_____________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف